عملية ردع العدوان- المعارضة السورية تزلزل حلب وتغير موازين القوى

منذ ما يقارب الشهرين، والهمسات تتردد بين أوساط الناشطين السوريين حيال التحشيدات العسكرية المتزايدة لفصائل المعارضة السورية المسلحة في محافظة إدلب. سرعان ما انتشرت الأخبار كالنار في الهشيم، مؤكدة أن هذه الاستعدادات العسكرية الضخمة تهدف إلى استعادة مدينة حلب، خاصةً في ظل انشغال القوات الموالية للنظام، المتمركزة في محافظة حلب وشرق إدلب، والتي تتكون من عناصر الحرس الثوري الإيراني ومقاتلي حزب الله اللبناني، بالصراعات الدائرة في لبنان على خلفية العمليات العسكرية الإسرائيلية.
في المقابل، سادت حالة من الإنكار والتشكيك لدى بعض المحللين والناشطين الآخرين، الذين استبعدوا أن تصل تداعيات الأمر إلى مدينة حلب أو أن تطالها بشكل مباشر. رجّح هؤلاء المراقبون أن يتم السماح لفصائل المعارضة بشن هجمات محدودة كرد فعل على الاعتداءات والانتهاكات المتكررة التي تتعرض لها مناطقهم، أو أن هذه التحشيدات العسكرية تهدف فحسب إلى تعزيز موقفهم التفاوضي في أي محادثات مستقبلية.
لم يكن الإعلان عن بدء المعركة من قبل فصائل "غرفة عمليات الفتح المبين" التابعة للمعارضة السورية، صباح يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، تحت مسمى "عملية ردع العدوان"، هو الأمر المفاجئ بحد ذاته، بل كان حجم الاشتباكات وتوسع نطاقها، الذي تجاوز بسرعة الهدف المعلن وهو تحرير مدينة حلب، هو الصادم حقًا، وذلك في ظل الانهيار المتسارع والمذهل لقوات النظام وحلفائه على الأرض.
مجريات المعركة وحدودها
بدأت الفصائل المسلحة في بث البيانات الرسمية وإعلانات الأخبار المتعلقة بالمعركة عبر ما أسمته "القيادة العامة لإدارة العمليات العسكرية". بالتوازي مع ذلك، بدأت الأخبار تتناقل عن التقدم الملحوظ وتحرير المدن والبلدات في ريف حلب الغربي، ومن ثم انطلاق محور ثانٍ للمعارك في ريف إدلب الشرقي. وقد تزامن ذلك مع اتساع نطاق المشاركة من مختلف الفصائل في هذه المواجهات، لا سيما في ضوء التقدم الخاطف الذي أحرزته الفصائل في اليوم الثاني للمعركة، وصولًا إلى النتائج المدهشة في اليوم الثالث، والتي تمثلت في سيطرة الفصائل بشكل كامل على مدينة حلب.
لقد كان الاستيلاء السهل والسريع على مدينة حلب، بعد السيطرة على ريفها الغربي، بمثابة حافز قوي لاستمرار الفصائل في القتال، مدفوعة بالارتفاع الهائل في معنويات عناصر المعارضة السورية. هذا بالإضافة إلى ما تم توفيره من أسلحة وذخائر غنموها من انهيار دفاعات قوات النظام والقوات الإيرانية، والتي استخدمتها الفصائل بشكل مباشر في تقدمها. ففي غضون الأيام الثلاثة الأولى للمعركة فقط، استولت الفصائل على ما يزيد عن 65 مدرعة، بما في ذلك عدد كبير من الدبابات، بالإضافة إلى مستودعات ضخمة من الصواريخ والطائرات المسيرة. وتشير التقديرات إلى أن حجم الأسلحة والعتاد والذخيرة التي حصلت عليها الفصائل يفوق بأكثر من الضعف ما كانت قد جهزته لخوض هذه المعركة.
مع ساعات الفجر الأولى من اليوم الرابع للمعركة، بدأت فصائل الجيش الوطني السوري – التي يُنظر إليها على أنها مدعومة من تركيا – المتمركزة شمال حلب باستهداف مواقع النظام في بلدة تادف، وأعلنت عن انطلاق عملياتها تحت اسم "غرفة عمليات فجر الحرية". وهكذا، دخلت المعارك يومها الرابع، والذي كان حافلًا بالتقدم الكبير والواسع في بلدات نبل والزهراء وتل رفعت في شمال حلب، بالإضافة إلى باقي المواقع العسكرية في مدينة حلب ومحيطها. إلى جانب ذلك، استُكمل التحرير الذي بدأ في إدلب من سراقب ليصل إلى معرة النعمان وخان شيخون ومورك، ليتم الإعلان رسميًا عن بدء معركة تحرير حماة.
دوافع المعركة وأسبابها
أكدت الفصائل في بياناتها الرسمية المتعلقة بالمعركة أن الأسباب الكامنة وراءها تتلخص في الاسم الذي تم اختياره لهذه العملية، وهو "ردع العدوان". فقد بدأت قوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية وعناصر حزب الله في تصعيد هجماتها واعتداءاتها ضد مناطق المعارضة، وخاصة في ريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي، وذلك منذ شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
في الواقع، فإن حالة الاستياء المتزايد من تجاوزات النظام وانتهاكاته لم تقتصر على المعارضة السورية وحدها، بل كانت واضحة أيضًا على الجانب التركي، الذي أوصل رسالة قاطعة إلى الروس خلال جولة أستانا 22، مفادها أنها لن تمنع الفصائل من مواجهة النظام. ولقد أعاد المسؤولون الأتراك التأكيد على ما كانوا يرددونه في كل جولة من المفاوضات، وهو ضرورة انسحاب النظام من المناطق التي اقتحمها بعد اتفاق عام 2019.
بالإضافة إلى التذمر من انتهاكات النظام وتجاوزاته المستمرة، فإن استمرار النظام في تقديم الدعم لـ "قوات سوريا الديمقراطية (قسد)" ورفضه القاطع للتطبيع مع تركيا ربما كان دافعًا إضافيًا يمكن أن يدفع أنقرة لدعم الفصائل والسماح لها بخوض هذه المعركة. خاصة وأن المستجدات الإقليمية والدولية قد قلبت موازين القوة بين الفاعلين المحليين في سوريا، وباتت المعارضة أكثر تماسكًا وإصرارًا على خوض المعركة، في حين أصبح النظام أكثر ضعفًا وتفككًا.
وبعيدًا عن الأسباب والدوافع المباشرة، فإن موازين القوى في المنطقة قد تغيرت بالفعل بشكل ملحوظ. ولا شك أن شكل المنطقة سيشهد تحولات جذرية مع تغير هذه الموازين. فالفائز هو من ترجح كفته، وستكون لديه فرص أكبر وميزات تنافسية على حساب أطراف أخرى تراجع نفوذها وتأثيرها الإقليمي والدولي.
وإذا صحت التوقعات والتحليلات، فإن تركيا قد شعرت بأن قدرتها على التحرك والتأثير في المشهد السوري قد تعززت بشكل كبير منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، وحالة الاستنزاف التي تعاني منها موسكو هناك. ثم تعزز هذا الشعور أكثر بعد التراجع الملحوظ في الدور الإيراني في المنطقة عمومًا، إثر الضربات الموجعة التي تلقتها من إسرائيل، وبعد الضعف الكبير الذي أصاب القوات الإيرانية وحزب الله اللبناني.
مواقف الفاعلين الإقليميين والدوليين
اكتفت تركيا بالإعلان عن أن المعركة التي انطلقت من إدلب هي معركة الفصائل السورية، وأنها تأتي في إطار حقهم المشروع في استعادة المناطق التي سيطر عليها النظام بعد إبرام اتفاقيات خفض التصعيد ووقف إطلاق النار بين موسكو وأنقرة عام 2019. ومن المعلوم أن الفصائل المشاركة في المعركة، أو جزء منها على الأقل، تحظى بدعم أنقرة، مما يرجح بشدة أن تكون تركيا داعمة للمعركة بشكل كامل بالقدر الذي يخدم مصالحها وأهدافها.
ويبدو جليًا أن تركيا لم تدعم هذه المعارك بالتوافق والتنسيق مع روسيا، بل على العكس تمامًا، كانت هذه المعارك نتيجة مباشرة للفشل في التوصل إلى تفاهمات بين أنقرة وموسكو في نقاشات ماراثونية امتدت لأشهر طويلة، ثم وصلت إلى طريق مسدود خلال جولة أستانا 22. إلا أنه في الوقت نفسه، كانت تركيا تعلم أن روسيا مضطرة للتعامل مع الواقع الجديد على الأرض دون أن تكون قادرة على تقديم الدعم الكافي للنظام.
فمن ناحية، تعاني روسيا من استنزاف كبير في مواردها وقدراتها نتيجة لحروبها في أوكرانيا. ومن ناحية أخرى، فإنها على المستوى الدولي لن تضع نفسها في موقف المدافع عن إيران وحزب الله في سوريا قبيل وصول ترامب المحتمل إلى السلطة.
روسيا لا يسرها ولا يروق لها هذا المشهد الجديد، وفي الوقت ذاته لا تملك ترف مواجهته أو التصدي له. فقواتها المتواجدة في سوريا غير كافية لتوفير تغطية جوية فعالة، وهي ترى أن التكلفة الباهظة لنقل العتاد والأسلحة إلى سوريا قد تكون غير مجدية في ظل عدم وجود قوات برية قادرة على الاستفادة من هذه التغطية، خاصة بعد مشاهد الانهيار المأساوي التي شهدتها الأيام الأولى للمعركة.
ومع ذلك، قد ترسل موسكو دعمًا عسكريًا محدودًا، كما وعدت النظام، بهدف حماية مصالحها الحيوية، ومحاولة وقف الانهيارات المتتالية عند حد معين، وذلك تمهيدًا للانتقال إلى طاولة المفاوضات. ولكن قبل ذلك، تنتظر موسكو أن يأتيها من يمول هذا الدعم ويدفع فاتورته الضخمة، وهو أمر يزداد صعوبة في ظل الأحداث المتسارعة على مستوى المنطقة منذ عام حتى الآن.
ويستبعد تمامًا أن يكون هناك أي دور للولايات المتحدة والدول الغربية عمومًا أو إسرائيل في هذه المعركة. ومع ذلك، فإن ما يحدث لا بد وأنه يقتطع من أرصدة إيران ومصالحها في المنطقة، وبالتالي ستنظر إليه الولايات المتحدة والدول الغربية بعين الرضا. في المقابل، لن تنظر إليه إسرائيل بإيجابية في ضوء توتر علاقاتها مع تركيا بعد معركة طوفان الأقصى، ولكنها سوف تستثمره وتستفيد منه في سياق حربها الشاملة على النفوذ الإيراني في المنطقة.
آثار المعركة وتداعياتها
ستترك المعارك الدائرة آثارها وتداعياتها العميقة على المشهد السياسي في سوريا بشكل كامل، تمامًا كما غيرت خريطة النفوذ والسيطرة بهذا الحجم الكبير نسبيًا. خاصة مع عدم قدرة النظام وحلفائه على تغيير الواقع الميداني الجديد واضطرارهم للتعامل معه كأمر واقع.
قد يكون من السابق لأوانه، أو حتى من المستبعد تمامًا، القول بأن هذه المعركة قد أنهت جميع التفاهمات والاتفاقيات الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها تلك التي تم توثيقها خلال جولات أستانا، أو تلك التي جرت بشكل ثنائي بين أنقرة وموسكو.
لكن المؤكد والجلي أن نتائج هذه المعارك ستصب في صالح تركيا على طاولة المباحثات السياسية، سواء مع روسيا في الملفات والقضايا المشتركة بين البلدين، أو مع الولايات المتحدة وباقي الدول الغربية بعد عودة ترامب المحتملة إلى البيت الأبيض وشروعه في تنفيذ سياسات بلاده الخارجية في منطقة الشرق الأوسط.
ربما لن تصل المعارك إلى حد تهديد النظام السوري وجوديًا وإسقاطه بالكامل، ولكنها ستعيد الحسابات في طريقة النظر إلى هذا النظام وتقييم جدوى التطبيع أو التعامل معه. كما أنها ستدعم المعارضة السورية وتقوي موقفها، وتساعدها لاحقًا في استعادة تأثيرها ودورها في العملية السياسية المتوقفة.
يكمن الخطر الأكبر الذي يتهدد النظام في قدرة المعارضة السورية، بدعم من تركيا، على إعمار مدينة حلب وباقي المناطق الخارجة عن سيطرته، وإدارتها بشكل فعال، بحيث تتحول إلى ملاذ آمن لعودة اللاجئين من خارج سوريا، ومهربًا لمن تبقى في مناطق النظام إليها. الأمر الذي سيساهم في تعزيز تفكك النظام وإضعافه تمهيدًا لانهياره.
أسرار توقيت المعركة
لقد تم اختيار توقيت هذه العملية العسكرية بدقة متناهية. فما كان لتركيا أن تتغاضى عن تحرك الفصائل في سوريا ضد النظام (وبالتالي ضد إيران وحزب الله)، بينما تستمر المعارك في لبنان ضد إسرائيل، حيث تقف أنقرة بصلابة ضد تل أبيب منذ بدء حربها على غزة وما تضمنته من مجازر وانتهاكات.
لذلك، كان تحرك الفصائل بعد إعلان وقف إطلاق النار في لبنان لحظة مناسبة تمامًا، حتى لا تتهم تركيا أو المعارضة بطعن ما يسمى بـ "محور المقاومة" في الخاصرة لصالح إسرائيل.
في الوقت نفسه، كان تأخير خيار العمل العسكري يهدف إلى محاولة تسوية الأمور عبر التفاوض مع روسيا، بناءً على تقديرات تشير إلى ضعف القدرة الروسية والإيرانية في سوريا. وبموجب هذه التسوية، كان من المفترض أن تتراجع قوات النظام عن المناطق التي سيطرت عليها بعد اتفاق عام 2019، وأن تلتزم روسيا بتعهدها بإخراج "قسد" من تل رفعت ومنبج.
لقد منحت أنقرة المفاوضات الفرصة الكافية، وكانت الجولة الأخيرة من مفاوضات أستانا التي عقدت في 11 و12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، فرصة أخيرة أمام روسيا للاستجابة لمطالب أنقرة، حتى لا تضطر الأخيرة للتحرك لحماية أمنها القومي، أو أن تسكت عن تحركات فصائل المعارضة لاستعادة المناطق بالقوة والسلاح.
لقد جاء توقيت المعركة في وقت يعاني فيه النظام من خلل بنيوي عميق في مؤسسته الأمنية والعسكرية، فضلًا عن الإرهاق والاستنزاف الذي يعاني منه حلفاؤه روسيا وإيران، مما يشغلهما عن تقديم الدعم الكافي له. هذا بالإضافة إلى الإنهاك والاضطراب الكامل الذي يعاني منه حزب الله اللبناني بعد الضربات القاصمة التي تعرض لها في حربه مع إسرائيل.
كما أن المعركة قد اندلعت خلال الفترة الانتقالية للإدارة الأميركية، وهي وإن كانت تستهدف النظام وإيران وحزب الله بشكل رئيسي، إلا أنها ستمتد لتطال قوات "قسد" المدعومة أميركيًا في غرب الفرات. ومثل هذا الوضع يفضل أن يحدث لتثبيت أمر واقع جديد قبل أن تتولى الإدارة الأميركية الجديدة مهامها رسميًا.